الروائي السوداني علي الرفاعي يفوز بجائزة كتارا 2016م
الممر: الهادي راضي
فازت رواية (جينات عائلة ميرو)، للروائي السوداني علي الرفاعي
بجائزة المؤسسة العامّة للحي الثقافي بدولة قطر (كتارا-2016م) عن فئة الروايات غير
المنشورة، وقيمتها 30 ألف دولار، واختيرت كأفضل رواية قابلة للتحويل لعمل درامي - عن
فئة الروايات غير المنشورة وقيمتها 100 ألف دولار.
علي الرفاعي من مواليد عطبرة 1949، تخرج في جامعة الخرطوم –
كلية الآداب، وعمل مشرفاً إدارياً ومترجماً بمعسكر (غرابة) الصحراوي، ثم كاتباً ومترجماً
بقوة دفاع أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، عمل مُدرِّساً بالمرحلة الإعدادية
بمدينة (سرت) الليبية. ويعمل حالياً مزارعاً بقريته (قوزقرافي).
نالت روايته (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى) شهادة تقديرية في
مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ينظمها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الدورة
الأولى 2003م، كما أحرزت روايته (قبيلة من وراء خط الأفق) الجائزة الأولى في الدورة
الثانية 2004م.نال جائزة الطيب صالح للأبداع الروائي عن روايته (كي لا يستيقظ النمل)
مناصفةً مع الروائي منصور الصويم عن روايته (ذاكرة شرير)، في الدورة الثالثة أكتوبر
2005. وفي عام 2014 نال جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي (زين)، عن روايته
(شبابيك الوجه الآخر).نُشرت له رواية (الطاحونة) ورواية (الشمس تغيب إلى أعلى). وله
مخطوطة لديوان شعر.
وشهدت جائزة كتارا هذا العام مشاركة 234 رواية منشورة، و732
أخرى غير منشورة، إضافة إلى 38 دراسة نقدية. وجاءت كل من مصر والسودان في صدارة الدول
المشاركة بـ375 مشاركة، تليها بلاد الشام والعراق بـ260 مشاركة، أما مشاركات دول المغرب
العربي فبلغ عددها 257، بينما حققت المشاركة الخليجية قفزة نوعية حيث وصلت إلى 105
مشاركات، إضافة إلى 7 مشاركات من السويد وإريتريا ونيجيريا.
وأعلنت أسماء الفائزين بجائزة هذه
الدورة في ختام فعاليات ثقافية انطلقت الاثنين الماضي بحفل للتوقيع على الروايات في
الدورة الأولى، وافتتاح معرض رواية الفتيان ومعرض نجيب محفوظ.
(في الصورة يظهر الكاتب ملوّحاً بعلم السودان)
أحمد شاويش يتغنى في حفل توقيع (الأتبراوية) و(حامل التابوت) لعادل سعد
الخرطوم: الممر
شارك عدد من الكتاب والفنانين في الحفل الذي أقيم بنادي
السكة الحديد بالخرطوم لتوقيع العملين الصادرين للكاتب عادل سعد يوسف يوم الخميس
الموافق السادس من أكتوبر. قرأ من المجموعتين (الأتبراوية) و(حامل التابوت) كل من
المغيرة حسين والأصمعي باشري وإيماض بدوي. وقدم الناقدان حامد بخيت وصلاح محمد
الحسن إضاءتين على الكتابين. شرّف الحفل الفنان أمير موسى وأحمد شاويش، مشاركَيْن
بالغناء في فواصل طويلة.
قراءات للشاعر الصادق الرضي في مانشيستر
مانشيستر: الممر
يقدّم الشاعر الصادق الرضي قراءات شعريّة ظهر الإثنين 17 أكتوبر
المقبل في مدينة مانشيستر البريطانية وما جاورها، وتأتي القراءة على شرف صدور كتاب
"قرد على الشباك"- مختارات شعرية بالعربية والإنجليزية، عن مهرجان مانشيستر
الأدبي، ومركز ترجمة الشعر في لندن، وبدعم من مجلس الآداب البريطاني.
يختتم مساء اليوم
سينما الجيران: أيام السينما الأفريقيّة في الخرطوم
بتنظيم من (جماعة الفيلم السوداني)، انتظمت في ثلاثة مواقع
في الخرطوم فعاليّات (أيام السينما الأفريقيّة)، والتي جَاءت بعنوان (سينما
الجيران)؛ حيث تَعاونت الجماعة مع مركز الجنيد الثقافي ومقهى السودان "سُودان
كَافيه"، وعرضت الأفلام في دور الثلاثة مراكز. وتختتم مساء اليوم الجمعة 14
أكتوبر الفعاليات بدار جماعة الفيلم السوداني بالملازمين – أمدرمان بعرض فيلم
(تيلاي – القانون) للمخرج إدريس أقادروقو من بوركينا فاسو، والفيلم من إنتاج عام
1991م.
لأول مرة تُمنح لمؤلف موسيقي
نوبل الآداب تفاجئ الجميع بفوز بوب ديلان...
الممر: وكالات
فاز مؤلف الأغاني الأميركي بوب ديلان أمس الخميس بجائزة نوبل
للآداب التي تُمنح للمرة الأولى إلى مؤلف موسيقي، ما أثار مفاجأةَ المراقبين.
وقالت الأكاديمية السويدية في حيثيات قرارها إن بوب ديلان
(75 عاماً) كوفئ "لأنه ابتكر تعابير شاعرية جديدة داخل التقليد الغنائي الأميركي
العظيم". وفرع الآداب هو آخر الفروع المعلنة للجائزة العالمية هذه السنة، وتحمل
الجائزة اسم ألفريد نوبل مخترع الديناميت وتقدم منذ عام 1901 لأصحاب الإنجازات في فروع
العلوم والآداب والسلام.
وشَكَّل الإعلان عن فوز ديلان مفاجأة للحضور في قاعة البورصة
العريقة في ستوكهولم التي علا التصفيق فيها. ويخلف الأميركي، وهو أول موسيقي تكافئه
الأكاديمية منذ استحداث الجوائز في العام 1901م، البيلاروسية سفيتلانا اليسكييفيتش.
وأوضحت الأمينة العامة للاكاديمية سارا دانيوس للتلفزيون السويدي
العام "إف في تي"، أن "بوب ديلان يكتب شعراً للأذن"، مؤكدةً أن
أعضاء الأكاديمية عَبَّروا عن "تماسكٍ كبير" في إطار هذا الخيار.
ووصفت الأكاديمية بوب ديلان بأنه "أيقونة"، وهو لا
يزال نَشِطاً حتى الآن. وقد أصدر في مايو الماضي ألبومه السابع والثلاثين المسجل في
الأستوديو بعنوان "فالين انجيلز"؛ حيث يؤدي أغنيات أميركية كلاسيكية اشتهرت
بصوت فرانك سيناترا.
وتترافق جائزة نوبل للآداب مع مكافأة مالية قدرها ثمانية ملايين
كورونة سويدية (906 آلاف دولار). واختتمت جائزة الآداب موسم نوبل للعام 2016م.
مجلة (جيل جديد) تتحوّل إلى موقع مع العدد (44)
الخرطوم: الممر
(جيل جديد) هي مجلة شهرية تُنشر عبر مُدوّنة إلكترونية على
الإنترنت، وتُعتبر من المجلات التي حافظت على استمراريتها منذ صدور عددها الأول في
8 مارس من العام 2014م، وتُشرف على تحريرها مجموعة من الأسماء الجديدة في ساحة
الكتابة السودانيّة، كما تتميّز أعمالها المنشورة بالجدة والاختلاف، وتتناول شتّى
الشؤون.
وبعد إصدارها لعددها رقم (44)، انتقلت المجلة من المدونة
القديمة لتؤسس موقعها الخاص على الشبكة (www.gealgaded.com)، وتصدر المجلة مع كل
عددٍ كتاباً إلكترونيّاً، ويُعتبر كتاب هذا العدد رقم (9) في السلسلة وهو للكاتب
مجاهد الدومة بعنوان (حيوات) عبارة عن قصص قصيرة ونصوص. كتب الدومة على صفحته
بموقع (فيسبوك) حول المجلة والكتاب: [في بداية العام ٢٠١٤ وبعد انقطاع عن وسائل التواصل
- فيسبوك خاصة - لقرابة السنة، وحين عودتي كنت أبحث عن المواقع والصفحات المهتمة بالمعرفة
والأدب، أُنقب في مساحات هذا الفضاء الشسوع، قرأت الكثير من النصوص والمقالات المدهشة
هنا وهناك، كنتُ - وما زلت - احتفي بهذه الإبداعات أينما وجدت.
وفي يونيو من نفس العام، وعبر صديقي هاشم صالح - الذي لم ألتقيه
حتى ذلك الحين - وأثناء محادثة عن الأدب والكتابة أخبرني عن مجلة جيل جديد، والذي هو
أحد كُتّابها فطلبت منه إرسال رابطها الإلكتروني. كنتُ اقرأ بِنَهم المواد المنشورة
فيها. ما أفرحني هو ذلك التنوع والاختلاف في كُل شَيء؛ الأفكار، طرائق الكتابة، وحقول
الكتابة من أدب، فلسفة، دين، سينما. ببساطة كان الأمر بمثابة الجنة - بتعبير بورخيسي
طبعاً. وفي هذا الشهر، برفقة العدد ٤٤ من المجلة كان الخبر الأجمل وهو اكتمال موقع
المجلة الإلكتروني الجديد].
إذاً، هي دعوة لمُطالعة العَدد الجَديد، والعودة لمُطالعة
الأعداد القديمة على الموقع الجديد.
رحيل الكاتب محمد عبد الله حرسم
رحل الأسبوع الماضي الكاتب السوداني محمد عبد الله حرسم.
وكانت دار أوراق للنشر قد نشرت نعياً على صفحتها الرسمية، حيث كانت تعتزم طباعة
كتابه الأول، رواية بعنوان (حينما كان رجلاً). ومن خلال النعي تُشير دار أوراق إلى
أنّ نُسخ الكتاب ستكون مُتوفرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ومعرض الخرطوم
الدولي للكتاب من 17 إلى 29 أكتوبر الحالي ومعرض الشارقة الدولي من 2 - 12 نوفمبر
المُقبل.
(السارية)
رواية جديدة لعباس علي عبود
الخرطوم: الممر
صدرت عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب رواية جديدة للكاتب
عباس علي عبود، بغلاف يحمل لوحة الفنان كريستيان شلوي "Christian Schloe" وبتصميم
د. هند سمير. نقرأ من أجواء الكتاب [عادت إلى رفيقاتها عند الغروب، بنصف ابتسامةٍ، ونصف شحوب. وقالت لهنَّ:
"أريدُ أن أنام باكراً".. حَملت لحافها واضطجعت خارج الخيمة، تراودُ
السماء، علَّها تبصرُ أملاً وسط بريق النجوم.. تواترت بدماغها الخواطرُ. ثمَّة مَن
يناديها.. أرهفت سمعها يناوش قلبها الوجيب. وعلى شفيرِ النعاس، في الظلمةِ
المدحورة، بين الهاجسِ والاحتمال، ترقرقَ إلى فؤادِها الواجفِ، حفيفُ أجنحةِ
الرَّحيل..].
/////
بركة ساكن يدخل أقصر قائمة لجائزة "الرواية
الأولى" في فرنسا
بعد تصفياتٍ عديدة لمجموع 559 رواية مترجمة إلى اللغة
الفرنسية، وصلت رواية الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن إلى أقصر قائمة ترشيح
لجائزة (الرواية الأولى في فرنسا)، والتي ضمت إلى جانب (مسيح دارفور) لعبد العزيز،
روايتين فقط للكتاب ديفيد إنيا ومولي برنتس. كذلك هنالك فرع آخر للجائزة مختص
بالروايات المكتوبة أصلاً بالفرنسية.
تُرجمت رواية عبد العزيز بواسطة المترجم إكزافير لوفين،
والذي ينشر له (الممر) في عدد اليوم، ضمن (باب) الترجمات، مقالة ترجمها الدكتور
عاطف الحاج سعيد وخصّنا بها، التهنئة موصولة من أسرة (الممر) للكاتب والمترجم. جدير
بالذكر أن النتيجة النهائية للجائزة ستُعلن خلال شهر نوفمبر المقبل.
------
حضور كثيف بـ(الصدى الآخر للأماكن)
الخرطوم: الممر
حضر عدد كبير من الكتاب والمهتمين الليلة التي خصصها نادي
القصة السوداني لمناقشة رواية (الصدى الآخر للأماكن) للروائية والشاعرة كلتوم فضل
الله. كان ذلك يوم الخميس السادس من أكتوبر. وقدم الناقد والكاتب خليل جمعة جابر
والصحافي والناقد محمد الربيع محمد صالح ورقتين عن الرواية.
تطرقت الورقة الأولى التي قدمها خليل جمعة جابر، إلى قراءة
تأويلية لمفردة الماء داخل الرواية، مستندة على مرجعيات مُنظّري فن الرواية من
شاكلة ميخائيل باختين ووجوليا كريستيفا. الورقة الثانية لمحمد الربيع تطرقت
لشخصيات الرواية وعوالمها. وأشار الربيع إلى متابعته اللصيقة لمشروع كلتوم الروائي
ومراهنته عليه في اختراق آفاق جديدة في الرواية السودانية.
أدبٌ سُوداني: مُهَمَّش؟ أم مُهَمِّش؟
يتساءل الكاتب الفرنسي تودروف في كتابه الشيّق
(فتح أمريكا)* عن مغزى كلمة (اكتشاف)، التي كان يُردّدُها الإسبان، في غمرة دهشتهم
بعثورهم على قارة أمريكا. هل يعني الأسبان - بحق السماء - أنها لم تنوجد قبل هذه
الصدفة الجميلة؟! ونحن نتساءل، مع تودروف، هل حقاً تم تهميش قارة الأدب السودانية أم أن الإسبان ما زالو مُندهشين؟.
شهدنا، خلال العصور الطويلة السابقة، مناحات
مستمرّة عن تهميش الأدب السوداني في ما يُسمَّى بـ "الثقافة العربية"،
هذا "الجَمْع" السهل لثقافات أفريقية وآسيويّة خلف ستار لغة ودين؛
وأظهرت هذا المسرح العظيم الذي استبسلت فيه جميع هذه الثقافات من خلال لغةٍ واحدة؛
شهدنا المناحة المستمرة حول تغييب قارة الأدب السودانية. لماذا هي بالذات؟ هل لأنّ
السودان لم "يُكتَشَف"، بالتعبير الذي سَخِرَ منه تودورف؟.
تقرير: مأمون التلب – محمد بابكر
سحبان
السواح يُقابَل بالصمت:
الكاتب
السوري، سحبان سواح -محرر مجلة
(ألف) التي انطلقت في بدايات التسعينات- يبشر بعالمٍ
جديدٍ يخرج من قارة الأدب السودانية تحت عنوان (هدية من السودان تتجاوز قرارات
الأمم المتحدة)، في 6 سبتمبر 2004م، في سياق تعليقه على خمسة نصوص أرسلها لموقعه
الشاعر محمد الصادق الحاج: (أتذكّر حين أصدرت مجلة (ألف) في العام 1991 من القرن
الماضي، استطعت أن اكتشف كماً كبيراً جداً من الكُتّاب المبدعين الشباب الذين أثروا
في الحياة الثقافية السورية والعربية فيما بعد، وكان منهم الكاتب المبدع عادل قصاص
من السودان أيضاً، فتحية لعادل وتحية لعصام عبد الحفيظ الفنان التشكيلي من السودان
أيضاً الذي كان يمدنا برسوماته التشكيلية المتميزة.
الآن ونحن
في القرن الواحد والعشرين، صرت أجد صُعوبةً في ذلك، ولولا هؤلاء المُبدعين على قلّتهم
الذين يرسلون أعمالهم الإبداعية لكان الموقع قد أعلن إفلاسه الآن، في حين أنه في
العام 1991 وما بعد كنا نرفض أعمالاً بمستوى رفيع جداً فقط لأنها لا تحمل طابع
الحداثة والتجديد الذي كنا نبحث عنه.
المفارقة
أن سحبان لحظة كتابته لهذه الافتتاحيّة، كانت دولة سوريا، بلاده، مستقرّة،
والبلدان "العربيّة" تعيش في عالمٍ ماضٍ نُسيَ اليوم تماماً مع ما تمّ
من دمار، حيث يقول: [ما أنشره هو الأفضل، والكثير منه لا يقل أهميةً عن تلك النصوص
السودانية التي أتحدث عنها. ولكن الفارق أن مُبدعي تلك النصوص يعيشون في بلاد لا
حروب أهلية فيها، ولا مآسٍ ولا جوع ولا فقر ولا حصار، بينما ما جاء من السودان يُعتبر
مُختلفاً.. يُعتبر حَدثاً يستحق التأريخ. هذه مجموعة من النصوص الإبداعية، التي لا
تتحدث عن الحرب ولا عن دارفور ولا عن جنوب السودان والمآسي التي حدثت به ولا عن
قرارات الأمم المتحدة بنشر قوات دولية في إقليم دارفور، بل هي تقول بكل بساطة: ها
نحن هنا، مازلنا نعيش، ومازلنا موجودين، ومازلنا نتنفّس حرية]. انتهى...
عندما نُشرت هذه الافتتاحية، قام الشاعر الصادق
الرضي بإعادة نشرها في ملحق هذه الصحيفة – السوداني – حيث كان يُشرف على قسمها
الثقافي. ولكن الأغرب أن لا تُحدث هذه المقالة أيّ ردّ فعلٍ من النقاد والمهتمين
بالشأن الثقافي، الأمر الذي وضعنا في موقفٍ حرجٍ مع كاتب المقال الذي توقّع ردود
فعلٍ كبيرة على مقاله، وظلّ يسأل من حينٍ لحين: (ألم يكتب أحدٌ من كُتّابكم عن
الأمر؟).
ذلك يذكّر بمقطعٍ من حوار مع الروائي محسن
خالد، أوردته الكاتبة السعودية ليلى البلوشي في مقالٍ نتطرّق إليه لاحقاً ضمن هذا
التقرير، يقول خالد: [بخصوص الساحة – النقدية - في السودان، هي بالتأكيد لن تفاجئ الساحة
العالمية بابتكار مباغت، ربما معنا من النقَّاد العدد القليل، وهذه ليست الآفة ولا
المشكلة، الآفة هي أنّ هذا العدد على قِلِّته يناقش كتاباً واحداً دون ملل، "موسم
الهجرة إلى الشمال" إن أحببت أن أُسمّيه لك. هم بالطبع سينتظرون نُقّاد الخارج
حتى يتناولوا أسماءً جديدة مثل: (أبّكر إسماعيل) أو (بركة ساكن) أو (محسن خالد)، ليأتوا
هم بعد ذلك كالبكتيريا التي تعقب الطاعِم، فلا يخرجون إلا بما يخرج به متسقِّط الفضلات،
وإن كانوا أذكياء بالفعل ومظلومين من قِبَل شخصٍ مستهبلٍ ومُتجنٍّ مثلي، فليلعبوا لعبة
جديدة ومعاكسة لمرَّة واحدة في حياتهم]..
أسئلة مُهدَرة؟
من ذات الاتجاه، هل كان مُثيراً ومُنتِجَاً
إهدار كلّ التحقيقات الصحفيّة في السودان وخارجه حول تهميش الأدب السوداني؟. هل
الأدب السوداني في حاجة إلى اعتراف؟ وهل هو سودانيٌّ من الأساس أم إنساني؟. يرد
محمد الصادق الحاج على هذا السؤال المطروح من قبل الأستاذ عيسى الحلو حول (الكتابة
الجديدة في السودان) في حوارٍ نُشرَ بـ(الرأي العام) السودانية أبريل 2007م: [عطفاً
على محاذير النظر إلى الفنون التعبيرية في حدود سياقاتها الجغرافية حصراً، فمما لا
تنكره السلامة أن الكتابة، بأي اعتبار قيست، أجغرافياً أو وجودياً؛ زمنياً أو
غيبياً، لم تكن، يوماً وأينما، بمعزل عن سلسلة التراكم الطويلة من المحاولات
البشرية والملاحظات والمعلومات والبيانات وأعمال المشاركة والاتصال والتعبير التي
أنجزها البشريُّون بعمر وجودهم، فلا هي محض (الكتابة الجديدة) ولا هي محض (جديدة)
ولا هي (في السودان) بهذه البساطة. فإن احتكمت في لحظة إلى جِدَّتِها، فما ذلك إلا
عملاً بواقع مفارقتها واختلافها، وحتى ذلك يتم من خلال اتصالها بمنجزات المعرفة
الإنسانية ولجوئها إلى استخدام وسائط المشاركة التي تكمن جذورُ نشأتِها في
القِدَم. وإن احتكمت إلى (في السودان) فَطَائِفٌ من العرفان بجميل يسهل التنكر له،
وعلى السودان أن يفخر بأن أتيح له هذا الشرف. ليست (تجارب الكتابة الجديدة في
السودان) لهواً يُزْجَرُ عنه؛ وليست مذهباً يذاد عنه بآلات منهجية. هي شيء مِنْ
صُلْبِ الوجود البشري على هذا الكوكب بما هو طبيعي وفريد بذات المقدار. كتابةٌ، هي
احتفاء بالشغفِ الأرضيِّ ورعشةِ الحياةِ ورعشةِ الموتِ وبغتةِ اللطمةِ والزمجرةِ
الطَّرُوبِ والقَرْعِ الساخط المستنـزَف المستعِرِ العاوي على كل باب مفتوح لا
يؤدي ولا يَستحقّ. كتابةٌ منحازة لحرية المحاولة والاختيار والاختلاف وقوة الممكن.
كتابةٌ منحازة للبشري ضالاً في ظلمات غريزته وفي ظلمات عقله، سائراً على الأرض تحت
أعراس الخيال والفيزياء، تهديه مساقط الممكن تحت جلده إلى بشريته، لا يَعِدُ
بأقلِّ منها ولا يقبل أقَلَّ منها؛ تهديه إلى جذوته وحشيةً ومستأنسة. كتابة خاضعة
لكل ضلال يريها طرفاً من المجهول].
انتصارات الخرطوم الثقافيّة
والسؤال عن (أين الأدب السوداني؟)، ومنذ تكراره
بعد ثمانينات القرن الماضي، وإلى بدايات القرن العشرين، أصبح مُملاً بصورةٍ لا
تُطاق. حتى السؤال عنه ضمن تحقيقات صحفيّة عربيّة، والاندهاش المُريب عندما تنال
رواية سودانية جائزةً عربية أو أن يُترجم إلى لغاتٍ أخرى؛ كل ذلك يدفع بسؤال: إلى
متى تنتظر الخرطوم، كعاصمة مُنتجة لثقافة مُغايرة ومتجددة؛ تنتظر الآخر ليمنَّ
عليها ويُثبت وجودها؟
قبل التسعينيات كان الأدب السوداني حاضراً في
المهرجانات العربية "القوميّة" إن صحَّ التعبير، وكان التواصل الشخصي
قائماً بين الأدباء السودانيين وغيرهم من الكاتبين باللغة العربية، ولكن انقطاعاً
حدث في التسعينيات، وانحصر الأدب السوداني داخلياً إلى أن بدأت اختراقات تحدث في
الألفيّة الجديدة، والسبب معروف: ثورة التكنولوجيا.
أكثر من ذلك، استطاعت الساحة الثقافيّة
السودانية في فترةٍ وجيزة أن تصنع مَنَابرَ ثقافيّة توسّعت لتضم كُتّاباً من
بلدانٍ مختلفة؛ فقد أسس المهندس الطيب المشرف مع شعراء وكُتّاب من السودان، مجلة
(البعيد) الإلكترونية؛ حيث يشرف على تحرير أبوابها الأحد عشر القاص والشاعر محفوظ
بشرى، والشاعر حاتم الكناني والشاعر والناقد ياسر فايز، وأصبحت (البعيد) بعد عامٍ
من تأسيسها، المنبر المفضل لمجموعة كبيرة من كُتّاب العربية والقراء، واستطاع
الموقع أن ينال شهادة اعتماد من الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية، حيث جاء في
الشهادة أن الموقع (اجتاز التقييم التحريري والتقني طبقاً للقواعد والإجراءات
المعمول بها بناءً على نص اللائحة الداخلية للاتحاد عن العام 2015 - 2016م). وعن
صحيفة "اليوم التالي" نقرأ عن الموقع: ((البعيد) مجلة إلكترونية مُختصة
بنشر الأدب، يشرف على إدارتها وتحريرها مجموعة من المبدعين الشباب، تعتمد في نشر
موادها على الجدة والحداثة، كما تأخذ خطاً تحريرياً واضحاً بالتزام القيمة
الإبداعية والمعرفية للنصوص المنشورة بغض النظر عن أسماء الكُتّاب أو أجيالهم أو
ميولاتهم وتصنيفاتهم السياسية، والأيدولوجية أو حتى جنسياتهم؛ فرغم أنّها مجلة سُودانية
في الأساس وتستهدف المبدع السوداني أولاً، إلاّ أنّ صفحاتها متاحة للمُبدعين والكُتّاب
من كل أنحاء الدنيا كافة. والمجلة في فترتها الوجيزة هذه نشرت مئات النصوص لعشرات
الكُتّاب وفي مختلف ضروب الإبداع، واستطاعت أن توصل صوتها وتحقق انتشاراً كبيراً
بين القراء والكُتّاب داخل السودان وخارجه، وتسد بشكل كبير الفراغ (الثقافي) الذي
أحدثه غياب الدورية المُتخصِّصة، سيما داخل السودان.
تفصيلياً نشرت (البعيد) منذ تأسيسها في أبريل
الماضي وحتى الآن أكثر من ثلاثمائة وخمس وسبعين مادة لأكثر من مئة وتسعين كاتباً؛
تتنوع المواد المنشورة بين النصوص الشعرية والسردية (قصة قصيرة، رواية وسيرة)،
والحوارات والكتابات النقدية، النشر باللغة الإنجليزية، الأخبار إضافةً إلى تخصيص
زوايا للتشكيل والصورة والسينما، بما يعني أنها مجلة ثقافية شاملة تغطي ضروب
الثقافة كافة داخل السودان (بشكل خاص وخارجه). وبعد عامٍ من تأسيسها (زار (البعيد)
خلال هذه الفترة القصيرة أكثر من ثلاثين ألف زائر وتم تصفحها بما يعادل مئة وستين
ألف متصفح، وهذان الرقمان بحسابات التصفح الإلكتروني يعكسان حجم النجاح الذي حققته
المجلة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنها مجلة أدبية متخصصة).
"اليوم التالي 28 يناير 2015م".
"اليوم التالي 28 يناير 2015م".
كذلك استطاعت مجلة (إكسير) الأدبيّة، وتطبع
ورقيّاً، أن تستمر بمجهودات فرديّة وبدعمِ أصدقاء المجلة، لتصدر ثلاثة أعداد عبارة
عن مجلدات ضخمة نُشرت فيها نصوص وكتابات وترجمات لأكثر من 150 كاتباً وكاتبة من
السودان، وتستعد حالياً – حسب المصادر – لإخراج العدد الرابع، يترافق معه صدور
كتاب مترجم عن المجلة ذاتها. مجلة (إكسير) كوّنت تياراً كتابيّاً جارفاً دفعت
بالمترجم والكاتب رافييل كورماك لتسميته بـ (جيل الإكسير)، حيث يقول في حوارٍ
تُرجم ونُشر في (الممر) قبل أسبوعين حول صدور كتاب الخرطوم – نصوص سودانية مترجمة
إلى الإنجليزية في ردّه حول "شعريّة" أحد النصوص: [مجموعة كبيرة من الكُتّاب
السودانيين انخرطوا في القصص الشعرية أكثر من القصص القصيرة. إنهم يختبرون شكل الكتابة.
نسميهم "جيل الإكسير" لأن جميعهم درج على النشر في مجلة تدعى "إكسير"،
والآن ينشرون على موقع إلكتروني يُسمَّى "البعيد" وهو موقع جيد حقاً.
تفسيري هو أنهم يجددون الأدب العربي بصورةٍ ما. "الثيمات" ذاتها صعبة الوصول
قليلاً وأسلوب الكتابة صعب أيضاً. موضوعياً هم على الأغلب خارج العالم أو خارقون، لكنه
ليس أمراً يشبه المنازل المصطادة، بل أكثر ميتافيزيقيةً]. وحول كتاب الخرطوم كأول
أنطولوجيا سودانية للقصص القصيرة تُترجم إلى الإنجليزيّة: [عادة ما يُهمَل السودان
في العالم العربي فيما يتعلق بالاختيارات، كما يتم إهماله أيضاً في المقتطفات الأدبية
الأفريقية].
غير ذلك فقد أُنجزت منابر ثقافيّة جديدة خلال
العام الماضي، نذكر منها مجلة (منشور)، و(الحداثة)، إضافةً إلى منابر مُستمرة
كمُنتدى مُشافهة النص الشعري. وافتُتِحت مكتبات بيع الكتب في وسط الخرطوم، وأُضيفت
إلى القلة القليلة التي كانت مُتواجدة؛ حيث دخلت دار مدارك بمكتبة، ومكتبة
الوراقين الثقافيّة، ودار المصورات للنشر والتوزيع. لقد أصبحت كلمة (صدر في
الخرطوم) كلمة عاديّة مؤخراً، وهذه قفزة نوعيّة فعلاً.
كذلك لعب معرض (مفروش) لبيع وتبادل الكتاب
المستعمل، دوراً مُهمّاً ومحوريّاً في إنعاش حركة الكتاب في الخرطوم، وهو المعرض
الذي كانت تُنظِّمه وتشرف عليه جماعة عمل الثقافيّة، والذي تم إيقافه لدواعٍ
إجرائيّة جدّاً من قبل مجلس المصنفات الأدبية والفنيّة. ورغم المُطالبات المُستمرة
في الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي، ورغم مُحاولات جماعة عمل في التواصل مع وزارة
الثقافة، إلا أن أمر تعليقه لم يتحرّك قط.
مع ذلك، فقد كثر الحديث كذلك عن إحجام الكاتب
السوداني، عموماً، عن الترويج لنفسه و"تسويقها"، ولكن من النشاط الذي
ساد في العشرية الأخيرة فإن هذا الاتهام يبطل تماماً، ويبقى منه تأفف الكاتب
السوداني من (التسويق) بالمعنى "السوقي" للكلمة. ومع الثورة التكنولوجية
فإن منطق (الاعتراف) الخارجي كذلك يفقد بريقه. قالت الكاتبة السعودية ليلى البلوشي
في مقالٍ كتبته في 14 نوفمبر 2014م، بعد أن تعرفت في الشبكة العنكبوتية على
الروائي عبد العزيز بركة ساكن، ومن بعده على العديد من الأسماء، وجاء تحت عنوان (الأدب
السوداني أنضجته الشمس وغافلته الريح)؛ تقول عن الكتاب السودانيين [الملاحظ أن الشمس
أنضجت إبداعاتهم بشكل جيد، وما الدور سوى على الريح الكسول أن تنثر عبقها الرائق إلى
أقطار شتى في العالم العربي، فهنالك نصوص مشبعة بالمتعة والإبداع والابتكار تستحق أن
تقرأ حقاً، ومنحهم صك الاعتراف ليس فعلاً جباراً؛ لأننا بكبسة زر واحدة نجمع حصيلة
لا بأس بها من قصص وروايات منشورة في خفايا الشبكة العنكبوتية، وهذا هو غرض المقال
في حد ذاته].
روايةٌ مُترجمةٌ من اللُغةِ العربيةِ أمْ مِنْ
اللُغاتِ العربيةِ؟ (2 - 2)
بقلم: البروفيسور
إكزافيه لوفان
ترجمة: الدكتور
عاطف الحاج سعيد
تزداد الأوضاع تعقيداً لا سيما عندما يستخدم الكاتب لهجاتٍ
عَديدة. تستخدم الروائية السعودية رجاء الصانع في رواية بنات الرياض (2005) لهجات سعودية مختلفة وفقاً لجذور شخصياتها.
يستطيع القارئ العربي أن يميز في الحال أن هذه الشخصيات تستخدم لهجات مُختلفة حتى
ولو أنه لا يُميِّز في أي جزء من البلاد تُتَحدث هذه اللهجات. مع ذلك تساعد
الكاتبة القارئ محددة في مقطع أن "لهجة الحجاز برزت
في حفل الزواج التقليدي في إقليم نجد" ـ هذه الجملة عندما يتم نقلها للفرنسية
سيكون لها نفس الأثر في القارئ الفرانكفوني.
عندما نعود للسودان بوضعيته الخَاصّة، نجد أنّ جزءاً كبيراً
من السكان لا يتحدّثون العربية لغةً أُم، خُصُوصاً في الجُزء الجنوبي، لكن مع ذلك
يتحدّثون لهجتين عربيتين: عربي جوبا وهو شكل مزيج من اللهجات السُّودانية، وغالباً
اللغة العامية السودانية المعيارية برغم عدم إجادتهم لها. عددٌ كبيرٌ من الكُتّاب
السودانيين يجعل شخصياته تتحدث بواحدة من هاتين اللهجتين اللتين يُمكن ترجمتهما
للفرنسية بيسرٍ عن طريق فرنسية تُحاكي الكريول (Créole) (حتى لو بطريقة مُصطنعة) بالنسبة لعربي جوبا، وبفرنسية محشوة
بأخطاء التذكير والتأنيث وتصريف الأفعال بالنسبة للثانية. وهو الحل الذي اخترناه
لترجمة فقرات من بعض هذه الكُتب.
لكن تَصبح الأوضاع أكثر تعقيداً في الروايات التي يُستخدم
فيها أكثر من لهجة عربية مثلما فعلت اللبنانية حنان الشيخ في روايتها إنّها لندن
يا عزيزي (2000)، والتي لكي تشير فيها للمُواطنَة العالمية للمجموعة العربية
في لندن جعلت الشّخصيات تتكلّم لهَجات مُختلفة: اللهجة السُّوريّة، العراقيّة،
المغربيّة، لهجة الخليج ....إلخ، بينما كتبت الحوارات التي دارت بالإنجليزية
باللغة العربية الفُصحى. مَرّة أخرى نتساءل: كيف يستطيع المُترجم نقل هذا التعدد
في اللهجات الذي تختص به اللغة العربية إلى لغة أخرى مثل الفرنسية؟
في الحالات التي قُمنا باستعراضها حتى الآن، يبدو لي أنّ
حلاً مثل الذي استخدمه سيرج قادروباني بالنسبة لمستويات اللغة الإيطالية هو حلٌ
غير مُناسب ـ أضف إلى ذلك أنّ مترجمي الروايات الفرنسيين الذين سبق ذكرهم لم يلجأوا
لهذا النوع من الحلول ولا أنا كذلك. ربما يتوجب قبول فكرة أنه في بعض الحالات يفقد
القارئ جزءاً من البعد اللغوي للرواية الأصلية ذلك لأن الأوضاع اللغوية فيها غير
قابلة للترجمة بكل بساطة؟ ويكمن توضيح هذا الأمر للقارئ باتباع استراتيجيات مُختلفة:
إضافة تعبير مثل "قال بلهجة لبنانية" ـ وإذا كان هذا التعبير لم يرد في
النص الأصلي يمكن توضيح ذلك مع ورود أول مقطع مكتوب بالعامية أو إخبار القارئ بذلك
في المُقدِّمة.
لكن جَولتنا لم تنتهِ بعد. تمثل العامية العربية الجزء
الأدنى من الثنائية التي يُشكِّلها مع العربي الفصيح، يمكن أن يستخدم كاتب ما هذه
الثنائية ليشير للأصل الاجتماعي لواحدة من شخصياته أو ليقابل بين محادثتين تدور
إحداهما في مقهى وتُستخدم فيها العامية وأخرى في محكمة مثلاً ويُستخدم فيها اللغة
الفصيحة. في الواقع، إنّ استخدام اللغة العامية كمؤشر اجتماعي يمثل رؤية مصطنعة
وغير صائبة بما أن اللغة العربية الفصحى ليست اللغة الأم لأحدٍ ما وأن الأشخاص
الأكثر تعليماً يتحدثون اللغة العامية في حياتهم اليومية. أن يُحَدّد استخدام
اللغة العامية في المناقشات التي تدور في المقهى أو في المشاهد التي تدور في
الشارع هو كذلك أمر غير واقعي وفيه اختزال من وجهة نظر لغوية بحتة. مع ذلك إذا كان
المترجم مقتنعاً بأن ذلك هو مقصد الكاتب، مهما كانت اعتباراته الشخصية فيما يتعلّق
بصلاحية خطوة الكاتب، يُمكن أن يستخدم لغة فرنسية أكثر عامية ليترجم اللغة العامية
المُستخدمة في المقهى ويستخدم لغة فرنسية أكثر فصاحة ليترجم اللغة الفصيحة التي يستخدمها
القَاضي. مرةً أخري، نلجأ في بعض الأحيان لهذه الاستراتيجية في ترجماتنا عندما
يبدو لنا بوضوح أن استخدام اللغة العامية ما هو إلاّ فعل لتوضيح التمايز
الاجتماعي.
هناك عقبةٌ أخيرةٌ يجب أن تُوضع في الاعتبار فيما يتعلق
بترجمة العاميات العربية وهي، كما أشرنا سابقاً، أنّ عدداً كبيراً من الكُتّاب لا
يكتب الحوارات حقيقة باللغة العربية العامية، لكن بالأحرى بلغة وسيطة تستلف عناصر
من اللغة العربية الفُصحى وعناصر من اللغة العَاميّة ولا تتوافق هذه اللغة الوسيطة
مع أيّة لغة مُتحدّثة فعلياً، عَلاوةً
على ذلك يجعل المؤلف نفس الشَّخصيَّة تتحدّث، وفي الحوار ذاته، مرة باللغة العامية
ومرة باللغة الفُصحى دون أن يتغيّر السياق كأنما الاستخدام الجزئي للعامية لم يكن
في الآخر سوى مؤشر ضمني مُرسل للقارئ لتنبيهه للانتماء الجغرافي أو الاجتماعي
للشخصية، أول ما يتم إرسال هذه الإشارة ليس هناك مُبرِّرٌ لتكرارها مرةً
أخرى.
كيف إذاً نترجم للقارئ، ليس استخدام اللغة العامية، لكن
الإشارات البسيطة التي يرسلها الكاتب للقارئ في اللغة الأصلية؟ أن نتبنى مُستوىً
واحداً للغة مُعيّنة ـ في حالة التوظيف الاجتماعي للهجة مَثلاً ـ لشخصية مُحدّدة
على امتداد الرواية سَيُشكِّل استراتيجية مُتجانسة ومُريحة للقارئ الفرانكفوني، مع
ذلك لن تستطيع هذه الاستراتيجية أن تَرُد الأثر الذي يحسه القارئ العربي الذي
يكتفي بالإشارات التي سبق ذكرها في سياق لغوي مزدوج أو مُتعدِّد اللهجات مُعتاد
عليه.
لكن نستحضر حالة أخرى: اللغة العربية المُستخدمة في
الروايات التاريخية. من بين الروائيين العرب الذين كتبوا روايات جرت أحداثها في
العُصور الوُسطى لعب بعضهم بمهارة بمُستويات اللغة لكن هذه المرة بمُستويات اللغة
العربية الفُصحى فقط. منهم الروائي المَغربي بن سالم حميش الذي تتبع في روايته مجنون
الحكم (1990) سيرة السلطان المصري الذي اشتهر بقسوته الحاكم بأمر الله والذي
عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. يمزج المؤلف نصّه عن طريق التناصات مع نصوص المُؤرِّخين
القُدماء الذين تناولوا هذه الفترة، ويبدو التفاوت واضحاً بين المُستويين اللغويين
على المُستوى الأسلوبي وعلى المُستوى اللفظي. وينطبق هذا الأمر أيضاً على رواية المُوسيقى
وخليفة بغداد (2005) للروائي اللبناني راشد ضيف التي يحكي فيها حياة (معبد)،
مغني من العصر العباسي، مزوداً بمعلومات من كتاب الأغاني للأصفهاني وهو واحدٌ من كَلاسيكيات
الأدب العربي في العُصور الوُسطى. يستعير المؤلف من هذا الكتاب كثيراً من المفردات
التي أصبحت مُهملة ليشرحها فوراً بعربية معاصرة. عند ترجمتنا لهذا الكتاب اخترنا
أن نبحث في اللغة الفرنسية المستخدمة في العصور الوسطى عن مفردات أصبحت أيضاً مُهملة
وشرحها بفرنسية مُعاصرة لكي نُعطي القارئ في الفرنسية انطباعاً مُشابهاً، إن لم
يكن مُتطابقاً، لذلك الذي يحسّه القارئ العَربي.
إنّ ترجمة مُستويات اللغة العربية إلى الفرنسية، من لغة
تستخدم بكثرة مُستوياتها المُتعدِّدة إلى لغة لا تمايز كبير بين مُستوياتها يُمثل تَحَدياً
للمترجم. وفقاً لرأينا الشخصي، نرى أنّ هذه المُستويات يُمكن بل يجب أن تُظْهَر في
بعض الحالات بصورة أو بأخرى ـ عندما يتعلّق الأمر بتوضيح تمايز اجتماعي، بطريقة
تحدث أجنبية أو شكل من اللغة العربية المحرفة عن الأصل ـ لكن يُمكن تجاهلها عندما
تكون ترجمتها غير مُمكنة بكل بَسَاطة مثلاً عند استخدام أربع أو خمس لهجات مُختلفة
داخل النص الواحد. يجب إذاً عَلى المُترجم أن يقبل الشُّعور بالعجز عن ترجمة
تعقيدات النص الأصلي، وحرمان القارئ من جزء من اللعبة التي تحدث بين المؤلف
والقارئ في النص المكتوب باللغة العربية حتى لو كان في مقدوره في بعض الأحيان
تعويض هذا النقص بإشارات بسيطة.
"جلسةُ
أنسٍ علاجيَةٍ" في حضرة تاج السر الملك (1 - 4)
د. النور حمد
"جلسة
أنسٍ علاجيِّةٍ"، تعبيرٌ من نحتي، ألهمتني فكرتَه جلسةُ أنسٍ على صحن فولٍ بزيت
السمسم في ساعات الضحى الأعلى. وهو صحن فولٍ صنعه تاج السر الملك في مطبخ بيته. أنضجه
في تؤدةِ تحكي تؤدةَ صوفيِّ خلّف الدنيا وعجلتها، وراء ظهره. وكما أخبرني، أنضج تاج
السر فوله هذا، على مدى ثماني ساعات في قدرٍ صغيرٍ، جلبه، لهذا الغرض من القاهرة. ولم
أملك ألا أن أقول له: "هذا شَعَرٌ طويل جداً، لا أملك له رقبةً". وسوف لن
أحكي لكم المحاضرة القصيرة الشيقة التي ألقاها على مسامعي، تاج السر الملك، بتفاصيلَ
بالغة الدقة والاحترافية، حول كيفية انضاج الفول المصري، كما ينبغي.
جَرت تلك الجلسة البديعة ذات ضحىً صيفيٍّ بديعٍ بضاحية الإسكندرية
بفرجينيا، على بُعد بضعة أميالٍ من قلب العاصمة واشنطن. و"الأنس العلاجي"
فعلٌ يقع وفق تصنيفاتي، في أقنوم النوستالجيا. ضمّت تلك الجلسة، تاج السر الملك، وصديقنا
المشترك كمال طيفور وشخصي. هذا النوع من الأنس يعيد به من طالت غربته، مثلنا، التوازن
إلى ذواتهم. فنحن نُؤكِّد به لأنفسنا أننا أحياءٌ نُرزق، وأنّ تأثيرات الغربة والارتحال
لم تطل السويداء بعد. في تلك الجلسة مارسنا اشرئباباً مجازيّاً للمسِ الجذور التي بعدت،
وأصبح لمسها عسيراً نوعاً ما.
صحن الفول بزيت السمسم، وقلب واشنطن دي سي المائر على مبعدةٍ
منا، والضحى الصيفي ذو النسماتِ الرقيقةِ المُنعشة الذي احتوشنا، وحالة الضوء الناعم
الرائق، التي تجعلك لا تعرف في أيِّ قسمٍ من النهار أنت، وخليط الأصوات الغريبة التي
تعلو وتخبو عبر مصراع باب البلكونة، وغرقي مع تاج السر الملك وكمال طيفور في شؤونٍ
سودانيةٍ غابرة لبضع ساعات، أمورٌ لا يجمعها في إطارٍ واحدٍ، سوى "زمن الغربة
والارتحال"، هذا.
رحم الله الفيتوري الذي كتب:
في زمنِ الغربةِ والارتحالْ
تأخذني منك وتعدو الظلالْ
وأنت عشقي، حيث لا عشقَ يا سودانُ،
إلا النسور الجبالْ.
لمن ترى أعزف أغنيتي، حيث لا مقياسَ،
إلا الكمالْ؟
إن لم تكن أنت الجمالُ الذي يملأ كفِّي،
فيفيضُ الجمالْ
يا شرفةَ التاريخِ،
يا رايةً منسوجةً، من شموخِ النساءِ،
وكبرياءِ الرجالْ
فدىً لعيني طفلةٍ غازلت دموعها،
حديقةً في الخيالْ
وجهك في راحتها خصلةٌ طريةٌ،
من زهر البرتقالْ
والنيلُ ثوبٌ أخضرٌ،
ربما عاكسه الخصر، قليلاً،
فمالْ
انقطعت عَادتي في الجلوس إلى تاج السر الملك منذ عشر سنوات بسبب
غيابي في دولة قطر. كانت آخر مرةٍ جلست فيها إليه في عام 2006، إذ جئته ليساعدني في
تجهيز بضعٍ من لوحاتي المائية، التي طُلب مني أن أرسلها بالبريد، للمُشاركة في معرضٍ
للمائيات بمدينة سبوكان في ولاية واشنطن. وتاج السر الملك ممن يتقنون تجهيز اللوحات
للعرض، أو ما يُسمى بالـ mounting، والـ framing.
حين عملت بجامعة مانسفيلد بولاية بنسلفانيا، (2005- 2006)، كنت
آتي كلَّ عطلةٍ قصيرةٍ إلى منطقة واشنطن، التي أضَحت مني على مرمى سويعاتٍ بالسيارة
لأزور أصدقائي من الجمهوريين. وكانت إحدى أهم فقرات زيارتي، في كل مرةٍ آتي فيها، الجلوسُ
إلى تاج السر الملك. كنت أختلف إليه في محترفه في واحدة من البنايات. هناك أجده جالساً
في هيئة راهبٍ عصريٍّ؛ مستغرقٍ في الرسم تارةً وفي التصميم الغرافيكي على الفوتوشوب
تارةً أخرى وفي التصوير الفوتوغرافي بشقيه الفني التعبيري والتجاري، تاراتٍ أخر. وكذلك
في استقبال زبائنه من السودانيين بمختلف مشاربهم، وطلباتهم. وحين ينصرفون ينصرف إليّ
مُواصلاً من حيث توقف، فيقول: "تعرف يا نور"، وتتدفّق ذاكرته البصرية والسمعية
الغريبة بسيلٍ عجيبٍ من الصور والحكايات. ينقلك تاج السر الملك، رغماً عنك إلى حيث
ظل يعيش. وفي حضرته، لا تملك فكاكاً من شباك عالمه المتجمد هذا التي يحيطك بها.
لا أعرف شخصاً تجمّدت ذاكرته السودانية بتفاصيلَ مُذهلةٍ مثل
تاج السر الملك. يرقد في عقل ووجدان تاج السر الملك جبلُ جليدٍ ضخمٍ، مادته صورٌ سودانيةٌ،
وحكاياتٌ سودانيةٌ، وأصواتٌ سودانية، وروائحُ سودانية، وعلومُ متداخلةٌ، تليدةٌ وطارفةٌ،
ومعانٍ سودانية شديدة الخصوصية. يذيب تاج السر الملك من جبل الذكريات الضخم المُتجمِّد
في وعيه كل مرةٍ، ما يود أن يذيب فتسيل منه أنهر. يفعل ذلك كلما وجد أذنًا صاغية، ووجدانًا
ذواقاً، وفؤاداً برّحه طولُ البعاد واستقر صاحبه في مقام الشجن واللوعة الدائمتين.
قلت له وأنا أتامله مليّاً، وهو يسرح في تلافيف حكاياته وتوصيفاته
بسلاسةٍ عجيبة وبوضوحٍ مذهلٍ، متدفقًا من ذاكرةٍ بصريةٍ لا توجد عادةً إلاّ عند بعض
المصابين بما يسمى "التوحد"، autism، قلت له: اسمعني جيداً يا
تاج السر الملك: إياك أن تذهب إلى السودان، بعد كل هذه الغيبة الطويلة التي زادت عن
ربع قرن. إذا ذهبت، ستختلط عليك الأمور، وستفقد كل هذا الرصيد الثر فجأةً. ولسوف ترتبك
عوالمك الداخلية ارتباكاً عظيماً. بل لسوف تشك في أن ما ظللت تتحدث عنه وتقتات منه،
آناء الليل وأطراف النهار، قد كان بالفعل شيئًا حقيقيّاً، سبق أن احتل حيِّزاً زمانيّاً
ومكانياً في الواقع الموضوعي، كما بقي بداخلك أيضاً.
واصلت مؤكداً له، بأنني أعرف هذا، لأنه سبق أن جرى لي حينما
ذهبت إلى السودان في عام 2007 لأول مرّةٍ بعد ثمانية عشر عاماً من الغياب المتصل. فقد
ضاعت مني صوري القديمة ولم أستطع أن أمسك بالصُورة الجديدة، وهكذا أصبحت مَرجعياتي
الاستاطيقية مُعلّقةً بين السماء والأرض. وأردفتُ: احتفظ بهذا الكنز الوجداني العَجيب،
واقتت منه ما شاء الله لك أن تقتات، واكرم به من شئت من أحبائك، فلا أنت ولا أنا عدنا
ندري: أنحنُ كيانٌ عتيقٌ راسخٌ رسوخ الجبال، أم نحن مجرد قشّةٍ في مهب الريح؟ كما بيَّن
هذه المقابلة من قبل الراحل الطيب صالح. عموماً لم نعد ندري والعمر يعبر بنا ظلالَ
أصيلٍ كوكبيٍّ شاحب، أيَّ شيءٍ تخبئه لنا الأقدار في غدنا.
عمل تاج السر الملك سنوات في الخرطوم، وشغل منصب رئيس تحرير
القسم الثقافي بصحيفة السوداني في حقبة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989). وهي ذات
الفترة التي غادر في نهاياتها السودان، في بعثةٍ قصيرةٍ إلى أمريكا. وحين علم وهو في
أمريكا بانقلاب الإنقاذ قرر فجأةً، ألا يعود...
هذه مقدمة قصيرة لخيط، أظنني سأمكث فيه بعض الوقت. وكفاتحة لشهية
القراء الأعزاء والقارئات العزيزات، أبدأ بإهداء لم يعهد الناس مثله في إهداءات الكتب.
فقد أهدى تاج السر الملك كتابه الثالث، "نخلة لا تنبت والأبنوس" إلى شقيقته
الراحلة نعيمة الملك، وكان إهداءً اتسم بالطول، كما سترون. يضم كتاب "نخلة لا
تنبت والأبنوس" ستةً وثلاثين نصاً أو قل أقصوصةً؛ إذ لا يمكن تصنيف ما يكتبه تاج
السر الملك. فهو كَاتبٌ مُتفرِّدٌ ربما استعصى على القالب. صدرت طبعة الكتاب الأولى
في واشنطن في 2014، وقدّم له القاص المعروف الصديق، بشرى الفاضل.
كتب تاج السر الملك إهداءه تحت عنوان: "تلك مُعجزات صغيرة"،
وهو إهداءٌ أقرب إلى الشعر الحُر منه أي شكلٍ أدبي آخر.
يقول الملك:
إلى روح أختي نعيمة الملك
لمقدمِ الشتاءِ طعمُ انتظار العفو عند سجينٍ. ورياحٍ في مَطلع
الصباح تَصافح التراب، فينثني منها، صاعداً، مثل ثوبٍ رَهيفٍ رَقيق، غيره غير مقدم
الصيف. حين يستوي الرجال ليرحمهم الله، وتصعد الرياح بالتراب كالمَدَى الحادة المُحدّدة.
وفي المساء يَستعينون بالصلاة القائمة، يَتَجَوّلون كما يُودَّوْن؛ قياصرةً في جنان
من الخزان الى الخزان، ومن النهر الى توتيل. ومع مشرق الشمس تعود إلى الحياة سيرتها
الأولى. يتوقف صوت الطَبل البَعيد الآتي من رحم المدينة. تنقطع أصوات المُنشدين المليئة
بالشجى والذكر.
تلك مُعجزاتٌ صغيرةٌ، مثل العشب ينمو على أطراف أعمدة التلغراف
في دار صباح. ونساء محو الأمية يَفْكُكْنَ الخطَّ في دهشةٍ وعجب، ويمشين على استحياءٍ.
وآسيا تعلّمت الضرب على الآلة الكاتبة. تجلس في مكتبها بالري والحفريات مثل ملكةٍ متوَّجةٍ،
تطّلع على أسرار العالم.
جاء "ختم" بقفةٍ وملاءةٍ بيضاء لنحضّر الأرواح. لشد
ما وثقنا في تفقهه وعلمه الذي يفوق مَدَاركنا، والإثارة التي يَحملها معه أينما ذهب.
لم نكن ندري أيّاً من الأرواح سنستدعي. ولكن كمالاً كان قد ابتلعه النهر، فعششت صورته
في مخيلاتنا طويلاً. وضعنا حجراً في قعر القفة، حتى نُودِينا للغَدَاء. فأرجأنا الرُّعب
ليومٍ قادمٍ. وقالت أمي: "سلامٌ قولاً من رب رحيم". في المساء تحوّل شجر
البان إلى عَماليق يمشون في السماء والشهب الراصدة. تهاوشوا في مزاحٍ ثقيلٍ حتى انفلاق
السواد عن زرقةٍ داكنة. ورماديٌّ أسفر عن فضّةٍ. وبعضُ عقيقٍ يرقد في أمان الأفق. وصاحت
أختنا الصغرى المسماة، "طيرة المغارب"، كعادتها كل يوم: "أنا أنوم وين"؟
ينهض عُمّال اللقيط وعُمّال الحديد وعُمّال الخشب، والتلاميذ
والعتالة وعبيد اليومية والسوق. ويُنفخ في البوق، وتهتز المَدينة مثل قطٍّ مُبتل. فلا
تتبق قطرةٌ من الماء على ملمسه الأملس. الفلاتيات جئن، "حاجة آسيا كُراع جدادة"،
و"حاجة درجة"، و"حاجة عشة قصيرونة": "سنُّو.. سنُّو آفيا".
يحترقن بالشوقِ إلى القبةِ الخضراء. لا يحفلون كثيراً بأب حراز، وطيبة، وفداسي، ورفاعة،
والمسلمية. حلمٌ يوتوبيٌّ يتبدد، بين حلة محجوب وحلة زنقو، وطريق التراب المُمتد الذي
ينتهي بالطاحونة. حياتهم ومعاشهم ومماتهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
والعيوش يجلبها القاسم من حلة الشريف يعقوب. وعبد العزيز المصري
الذي كان يبيع معها سرائر ماركة علامة النخلة الشهيرة. وقدورة الحضري، وعم عبد الوهاب،
وهذا ما أدركنا من علم اسمه. من القضارف والمطارف تأتي العيوش، "وزن عشرة"
و"المقد" و"ود عكر" و"الفتريتة". ومن عُمق التراب الأسود
اللزج، واسم الأب والابن والروح القدس، "عادل وليم" يا حليلو. غنى فتحي من
أسىً طفوليٍّ حين ارتحل صديق طفولته إلى الخرطوم، جالس على "البيارة" وحيداً.
لم نكن ندري من أيِّ عهدٍ يتدفق ماؤها. بيد أنه عذبٌ رقراق، مندفع كالسيل، بقايا مما
صنعه الإنجليز. نغسل فيه أقدامنا الصغيرة. نغسل وجوهنا ونشرب منه مثل العصافير. ونتركه
يمضي عنا، ليسقي حديقة بيت مأمور السكة الحديد. وفي طريقه إليها، يسقي الشجيرات بنات
الحرام، والأعشاب التي يسكنها "القَبُور"، والجهنميات، والعوير، والريحان،
والتمر هندي والزونيا والنبق الهندي. ويسقي في ما يسقي، موسيقى عالم الرياضة، حين يحل
موعد الغداء. منه يصنعون شراب الحرية كولا، والحرية برتقال، وحرية بيضاء شفافة، لا
أذكر لها اسماً.
نصوص
لماذا نحب ولماذا يعشق احدنا الآخر
ياسر زمراوي
نحب لأننا نبتغي أن نَمتَلِك، أن نَسجِنَ الآخر في قيدِ مَعْنَانا
للحياة، في أفق أطروحاتنا ومجابهاتنا للمتكون، للموجود، للتأريخ القائم والمستمر، للمحيط
المُستَنْفَر ضدَّ نزعة الذاتية ومحاولات التخصيص، الجمع المُحَارِب للكائن الفردي
يُقَاتل بالحب الفردي، نُحبُّ لنسعى خلاصاً من الأصوات المتعددة، للمجموع البشري المتمترس
في خانة المضاهاة، ونحب ويكون ذلك المجموع زائداً في الحرص على راتبية النَقْر على
باب حبنا.
نحن نحب لنقتل الغيب الذي يتخفَّى خلف الأكمة منتظراً لوحة للإيقاف،
سجناً للذاكرة، دفناً للإبداع، إرهاقاً للانطلاق، الغيب هو أكثر الكائنات قدرة، والموت
هو أكثر الأحياء حيوية، في ذاتنا المتمهلة نشفق على أنفسنا، فنحب لحفظ الذات من الانمحاء،
لحفظ التاريخ من الزوال لكونه منجزنا المتشكل وواقعنا المعايش في انفراده بالتباين،
ما يأخذه الغيب نعيده باللغة، بالانشطار في الحوارات، بالانتشار في الصمت والحركة بمماحكة
الحياة لتقتير لحظة الفناء الموغلة في النهب من حيواتنا المقبلة على الصمت الأبدي؛
صمت الموت، سكوت المُنجز، ضياع المؤرخ، هباء المؤسس. الفناء يُقتل بالحب، لانشطار الذات
في ذاتين تحفظان المتكون في جرارهما الذهبية، في أيقونات السعة وفي سرمدية الانسراب
نحو نظرةٍ عميقةٍ لماضي لم يتكون بعد. الذات المنشطرة تلك تعاود مراوحاتها في حقول
الـتألف والنسج البشري، في مطال القول ورفعة الاندغام، في سجن التماهي المستلذ، وصلاته
الموقرة.